حملة أبي أقرا لي: سؤال البصري في إعادة النظر بمفهوم ” الأب” داخل المجتمع الفلسطيني

pastedGraphic.png

قدمت هذه المقالة من مؤسسة تامر للتعليم المجتمعي – فلسطين – للمشاركة في العدد الثامن من “مجلة تمكين التعليم”. يمكن النقر على هذا الرابط للاطلاع على النشرة. 

 مقدمة:

تتنوع الطرق التي تتلقى او تبحث فيها الذات عن المعرفة، وربما تُشكل ” المعرفة” مفهوما متسعاً وشاملاً يتجاوز فكرة التعلم بطرقها وتصوراتها التقليدية، هذه المعرفة التي تتشكل من كافة الخبرات اليومية، من العلاقة مع الاخرين، من التجارب الذاتية، المغامرات، من القراءة، من الوقوع والنهوض، من المدرسة، والشارع، والبيت، الجامع، ومن اجل تحديد أدق يمكننا تقسيم المعرفة نظريا الى شكلين الأول قائم على اهتمامات ورغبة الذات، والثاني حول ما تتعرض له بشكل واعي وغير واعي عبر الانخراط مع المجتمع والجماعات داخله. 

الفردي والجمعي في مواجهة المجتمع.

في هذه الورقة نتناول مفهوم المعرفة بارتباطه بالممارسات اليومية داخل الفضاءات العامة، وفي عرض تجربة البصري في إعادة تشكيل المعرفة وأيضا في تداولها، معرفة الجماعة عن ذاتها وعن الاخرين، وفي إعادة صوغ العلاقات الإنسانية من خلال تقديم نموذج يكسر العادي والمألوف ويعيد ترتيبه ليمثل قيم إنسانية شمولية، حيث سنتناول المواد البصرية التي تم انتاجها من قبل مؤسسة تامر للتعليم المجتمعي حول حملة ” ابي اقرا لي” والتي تمثلت بتسعة ملصقات حتى العام 2018، حيث اطلقت مؤسسة تامر للتعليم المجتمعي منذ العام 2010 حملة سنوية تحت شعار ” أبي اقرا لي”، جاءت الحملة ” نتيجة لانخراط المؤسسة على مدار عشرات السنوات بقضايا المجتمع الثقافية والتعلمية، هذا الانخراط الذي يشكل جزء أساسيا من رؤية المؤسسة ودورها في رفد الإنتاج المعرفي الثقافي من جهة، وفي الحفر بدور هذه المعارف على تشكيل بنية إنسانية قائمة على التسامح والمحبة، وفي إعادة تشكيل النسيج الاجتماعي بالانحياز الى القيم الإنسانية الشمولية التي تنظم علاقة الافراد بغض النظر عن أعمارهم ومستوياتهم الاجتماعية.

جاء التركيز على ” الأب” نظرا للدور النمطي المغيب للآباء داخل العملية التربوية بشكل عام، هذا الغياب الذي يحضر أحيانا على شكل سلطة مطلقة ومصدرا للخوف داخل البيت، وعدم تقاسم الأدوار بشكل متساوي داخل العائلة بحيث يحمل الاب والام والأطفال أدوارا ومهام داخل هذه البنية الاجتماعية.

وفي هذه الحملة تتشارك تامر مع كافة المكتبات المجتمعية والمدرسية، والمؤسسات الثقافية والفاعلين الثقافيين في المجتمع الفلسطيني من خلال تطويرها لفكرة اللجان التحضيرية التي تضم ممثلين وممثلات عن المؤسسات التي تم ذكرها، واشخاص بصفتهم الفردية مثل فنانين وفنانات، كتاب وكاتبات، ومبادرين ومبادرات مجتمعيين، اعلامين واعلاميات، واي فرد لديه اهتمام بالعمل على المستوى الاجتماعي والثقافي، والنقاشات التي يتم تداولها داخل الاجتماعات تساهم في خلق زحزحة او خلخلة داخليه للمجموعة عن مفهوم العلاقة بينهم وبين أطفالهم، وفي التفكير بطرق يمكن العمل عليها من اجل نقل هذه الازاحة الى المجتمع، وبذلك تعمل هذه الاجتماعات باتجاهين بدء من المجموعة ومن ثم الانطلاق الى المجتمع، حيث تعمل هذه اللجان على إعادة النظر في دور الاب وعلاقته مع افراد الاسرة، فتقوم بالتفكير بمجموعة من الأنشطة والفعاليات التي تستطيع دمج الإباء بشكل سلس مع أطفالهم.

فيتم دعوة الإباء الى أنشطة في هذه المراكز المجتمعية ليشاركوا أطفالهم بعض التجارب الفنية والحوارية، وفي كل مرة يكتشف الإباء طفولة تكمن في داخلهم، وسياق الجماعة يسمح لهم بممارستها بخفة وبلا تعقيدات مكثفة، فحضور الاب الى مكان النشاط بصحبة اطفاله يعد خطوة متقدمة في العلاقة بينهم، ففي احد الأنشطة رسم طفل اباه بانه ضخم جدا جدا حيث ركز الطفل على الحذاء وذلك لارتباط حضور الاب داخل البيت بحذائه، وغالبا ما كان هذا الاب يغيب طويلا نتيجة لظروف العمل الخاصة به، كان هذا النقاش رسالة من الطفل الى الاب بشكل واضح، واعادت هذه الرسالة الاب الى التفكير بدوره داخل العائلة وبعلاقته مع اطفاله، في نشاط اخر كتب طفل ان امنيته ان ينام جنب والده، كانت الأمنية خفيفة الظل وفيها الكثير من الطفولة، وهي أيضا رسائل يستقبلها الإباء ونحاول فتح نقاشات مختلفة معهم حولها، نقاشات تمتد على طول العام تحاول فهم هذه العلاقات وتقريبها، لإيماننا كمؤسسة ان الحوار بجميع اطرافه ومكوناته يساعد في تعميق النسيج الاجتماعي وفي التعلم وفهم وقبول الآخر.  

وفي هذه الأنشطة يختلف استعداد الإباء فبعضهم يكون مستعد لأي نشاط وجاهز له، واخرين يحضرون من باب المرافقة ومن ثم نتيجة تعرفهم على المجموعة ورؤية الإباء يلعبون مع أطفالهم بأريحية فانهم ينغمسون بالأنشطة بشكل سلس، وفي هذه السنوات التسعة من تنفيذ الحملة نستطيع ان ندعي كمؤسسة بان حملة ابي اقرا لي خلقت نماذج لأباء اقرب لانفسهم ومع أطفالهم، ففي كل عام تحضر عشرات من القصص التي تؤكد هذا القرب الذي لم يحتاج سوا لحوار ونشاط بسيط في الفضاء العام، لمدة ساعتين من الوقت يقضيها الاباء مع أطفالهم ليعيدوا اكتشاف طفولتهم وقدرتهم على اللعب والحركة والتفكير بهذه العلاقة من مكان يبعد قليلا عن الواجبات والمسؤوليات التي يحددها المجتمع ويغمس الإباء فيها قبل ان يصبحوا اباء بأغلب الوقت. 

 البصري يعيد تشكيل البنية الفكرية حول العائلة. 

تتمثل فكرة النسيج الاجتماعي بشكله الاعم في القدرة على خلق حالة من التساوي والتشاركية بين الافراد الذين ينتمون الى بنية اجتماعية ضمن سياق اجتماعي وثقافي وظروف تاريخية ومكانية ولغوية جامعة، بحيث تتشارك هذه الجماعة بمسؤوليات تجاه ذاتها والاخرين، وهناك العديد من القضايا التي تواجه الجماعات، وتعد العلاقة بين الأهالي وتحديدا الإباء مع أطفالهم احد هذه القضايا المهمة كون كل عائلة هي جزء من هذا النسيج الجمعي المشترك، وكل فرد داخلها هو جزء من مهم للاتساق والتوازن داخل هذا الجمع، فاذا حدث اختلال في دور احد افراد النسيج يعتل النسج بأكمله، ومن خلال حملة ابي اقرا لي تحاول مؤسسة تامر رج المجتمع للنظر بهذه العلاقة كونها جزء من النسج المجتمعي، لذا في كل عام يتم انتاج ملصق يعبر عن هذه العلاقة ويحاول دفعها للتغيير والانفتاح.

يشكل الملصق ” البوستر” حالة من القلب الجماعي كونه يخترق الفضاءات البصرية العامة للأفراد، ويكون بمواجهة مع محيطهم الاجتماعي البصري اثناء تنقلهم داخل الأماكن التي يشغلوها وعبر تصفحهم لوسائل التواصل الاجتماعي، واذا نظرنا الى الملصقات التسعة التي عملت تامر على اطلاقها داخل هذه الفضاءات فانها تطرح مجموعة من القضايا فمثلا في العام 2010 احتضن الملصق صورة لاب مبتسم يشاركه طفله الذكر عملية القراءة، داخل هذا الملصق الكثير من القرب والتشاركية على المستوى المادي من حيث المكان، وعلى مستوى المشاعر، اما في العام 2011 فقد حضر الطفل داخل الملصق لوحده مع سردية نصية داخله تنتهي بقول الطفل ” أبي تعال الى عالمي”، حيث كان للطفل عالم كبير ومتسع يصنعه من الورق، فذكرنا هذا الطفل بهذه العلاقة المتوترة وتشعباتها وبالوحدة التي يعاني منها الأطفال اثناء ممارستهم لحياتهم اليومية، وفي قدرتهم على الخيال والانفكاك من العلاقة النمطية والادوار العائلية المعدة مسبقا. 

انقلب الحضور في العام 2012 ليصبح هناك حضور انثوي داخل الملصق، لاباء أيضا بقرب عالي مع أطفالهم ويشاركهم فعل القراءة ويقومون واياهم بمجموعة من الأنشطة الحياتية، وفي 2013 اصبح الاب أكبر عمرا ولكنه يحتفظ بقدرته على مشاركة الأطفال ذكورا واناثا بعالمهم ومكوناته المتنوعة والغريبة، في 2014 حضر الاب بصورة رمزية عالية، فكان راسه على هيئة شجرة وله قدمان كبيران ملتصقات بالأرض، وطفله يتمرجح بحبل مربوط بذراعيه، هذه الرمزية قدمت للمجتمع الفلسطيني أدوات جديدة تعيد تعريف العلاقة بين الاب والطفل من خلال الرمزية، ونقلت السؤال من دور الاب في حياة اطفاله وكيف يساعدهم على التعلم الى معنى وجوده داخل هذه البنية المجتمعية. 

عادت في العام 2015 الوحدة الى ملصق ” ابي اقرا لي” هي وحدة من حيث حضور طفلة بدون الاب، تقف اعلى كل البيوت في مواجهة تلة، ربما هذا الحضور القوي للطفلة تمثل في وجودها عاليا وبلا أي دعوات، وهو محاولة لأزاحة نظر المجتمع نحو الأطفال من كونهم غير قادرين على التحرك وحدهم الى أطفال قادرين على العلو عبر مغامراتهم الذاتية وطرقهم الخاصة في الاكتشاف، وبالطبع كان لاثار الحرب على غزة حضورا عاليا داخل النقاشات حول الملصق، فنتيجة الحرب فقد مئات والاف من الأطفال اباءهم وامهاتهم، فجاء الملصق ليسندهم داخل هذا الفراغ الذي خلقته الحرب فيهم، وليدعم رؤيتهم للحياة وللقوة داخلهم. 

اما في العام 2016 فجاء اب كبير جدا، ضخم، متسع من جهة الصدر ولديه راس صغيرة جدا ويحضن فتيات ” اناث” خمسة، كان التركيز على هذه المعضلة الاجتماعية التي تغالي من فكرة انجاب الأطفال الذكور، واعطاءهم المركزية في حمل اسم العائلة والحفاظ على امتداده وتغييب لدور الاناث داخل العائلة والمجتمع على حد سواء، وكل الممارسات الأخرى التي يقوم بها المجتمع من اجل استمرار هذه الفكرة، والعنف النفسي الذي يقع على الاناث نتيجة هذه الفكرة، فجاء الملصق ليعيد النظر بهذا الدور والمعنى للأنثى تحديدا داخل العائلة. 

في العام 2017 حضر الاب الملتحي، السمين قليلا في هيئة اتسمت بخفة الظل، يشارك اطفاله اللعب والتسلق على الشجرة، فالملابس التي يرتديها الاب قلبت النظر الى ” اللحية” وبالحقيقة ان هذا الملصق لم يعيد فقط النظر بصورة الاب كشريك للعب والمرح وباعترافه بأطفاله كجزء أساسي في هذه الشراكة، وانما في إعادة النظر في صورة ” الرجل الملتحي” وتفكيك هذه العلاقة المعقدة التي يخلقها المجتمع سياسا وثقافيا حول المظهر وانعكاساته على بنية الأفكار. 

اما في العام الماضي “2018” فعاد الاب الأكبر عمرا، الاب الجد، الاب الذي يحضر دوره ليكون جد، مع احتفاظه بخفة ظله وقدرته على مشاركة الصغار أفكارهم واحلامهم ومغامراتهم الصغيرة. 

عادة ما يترافق كل عام من الحملة مجموعة من الانتاجات الأدبية من قصص للأطفال واليافعين التي يتم نقاشها مع المجموعات المختلفة، اخذ صور منها والعمل عليها، او نصوص سردية تتحدث عن هذه العلاقة، وهي نصوص نقدية تخضع مفهوم العائلة ودورها للنقاش وإعادة النظر. 

ان أهمية هذه الملصقات تكمن في وجودها عبر كافة الفضاءات البصرية في المجتمع، وفي اشغالها للفراغ وإعادة تشكيله على المستوى المادي والمجازي، فتحضر داخل المدارس، المكتبات المجتمعية، على أبواب المحلات التجارية، عبر الشاشات داخل المدن، وعلى حيطان البيوت والمؤسسات الشريكة، مما يساهم وجودها في جعلها أقرب للناس، وتطرح تساؤلات متنوعة حول القضايا المجتمعية والثقافية التي تمر بها المجتمعات بشكل عام.  

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *